الباب الثالث من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية
“ولا يكثر الشكوى مع الحب صادق
ولا يقهر الوسواس صدرا به ود”.
يوضح هنا الشيخ في هذا الباب ان حال المريد الصادق الذي صدق في
محبته لمولاه ، فسلم له نفسه وروحه وما ملك ،
فحبس لسانه عن الشكوى عند نزول البلاء ،
وحبس قلبه عن التسخط لقضاء مولاه ،لأن
المحبة هي إيثارك لمولاك على نفسك وروحك
ومالك وموافقتك له سراً وجهراً،فالحبيب يفعل
ما يشاء ، إن شاء وصل ، وإن شاء هجر ، وإن شاء
أبلى وإن شاء أعطى أو منع ، ولذلك قال الإمام
الجنيد: المحبة أن تحب ما يحبه المحبوب ولو
كان فيه الموت .
فمتى أحب المريد مولاه وعلم أنه لله ، استعذب
البلوى كالحلوى ، لآنها ممن يحب ويهوى ، فقد
طابت في محبته البلوى ، ولذلك ما أحسن قول
القائل:
“فما في الهوى شكوى ولو مُزِقَ الحشا
وعار على العشاق في حبكالشكوى.
ولذلك لما دخل ذو النون على مريض يعوده ،
فبينما كان يكلمه أنَّ أنَّة،فقال له ذو النون :ليس
بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه ، فقال
المريض: بل ليس بصادق في حبه من لم يتلذذ
بضربه .
لذلك أحسن من قال:
“إذا طَرَقَتْ بابي من الدهر فاقة
فتحتُ لها باب المسرة والبشر.
**وقلتُ لها أهلاً وسهلاً مرحبا
فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر.
كما حكي عن أبي يزيد قوله: منذ عـرفـتُ اللهَ
ما شكـوت أحداً قط لعلمي بقيام الله بأحوال
العبيد .
كذلك فإن مثل هذا الصدر الممتلئ بحب الله لا
يقهره وسواس ولا يدخله سواه ،إذ هو قلب غاب
عن الناس والوسواس في شهود رب الناس ، كما
قال بعضهم:
“إن كان للناس وسواس يوسوسهم
فأنت والله وسواسي وخناسي.
ولذلك قال الجنيد :المحبة هي أخذة من الله لقلب
عبده عن كل شئ سواه.
وفي تفسير الرازي: شكا بعض المريدين من كثرة
الوسواس، فقال الأستاذ: كنت حداداً عشر سنين،
وقصاراً عشرة أخرى، وبوابًا عشرة ثالثة، فقالوا:
ما رأيناك فعلت ذلك، قال: فعلت ولكنكم ما رأيتم،
أما عرفتم أن القلب كالحديد؟ فكنت كالحداد
ألينه بنار الخوف عشر سنين، ثم بعد ذلك شرعت
في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين، ثم
بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب
عشرة أخرى سالا سيف «لا إله إلا الله» فلم أزل
حتى يخرج منه حب غير الله، ولم أزل حتى
يدخل فيه حب الله تعالى، فلما خلت عرصة القلب
عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت
من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب
في تلك القطرة، وفني عن الكل، ولم يبق فيه إلا
محض سر“لا إله إلا الله”
اترك تعليقاً