الباب الرابع عشر من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية
وصحبة أهل اللغو تهلك يا فتى
كمن عاش فردا بالقبور بلا وفد”.
ويقول هنا الشيخ: هذا الباب مرتبط بسابقه ، إذ مما يعين المريد على مشاق الطريق أن يصحب من ينهضه حاله ويبتعد عن مصاحبة الغافلين وأهل اللغو ، وشبه شيخنا هنا من صاحب أهل اللغو والغفلة بمن عاش بين القبور فرداً بلا زائر ولا وافد ،وقد عبر شيخنا عن ذلك في الياقوتة فقال : واترك سبيل الغافلين وناجنا وعن الآنام فكن غنياًمحسنا. كما قال في بعض حكمه : إن جاورت الغافلين غفلت ، وإن صاحبتهم وأنت طائع بطاعتك اغتررت . وبذلك حثنا سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ). والله وصف أهل النجاة والإيمان بقوله { والذين هم عن اللغو معرضون } ، ذلك أن هؤلاء المؤمنون لما طالعوا الحق أخذهم عنهم وسلبهم منهم قد شغلهم عن الأغيار ، وآواهم بعيداً عن اللغو ومن باب أولى أهل اللغو إلى صحبة العارفين وأهل الإيمان. واللغو هو كل فعل لا لله وكل قول لا من الله ورؤية غير الله وكل ما يشغلك عن الله فهو لغو. وقيل اللـغـو هـو المعاصي وقيل هـو الباطل وقيل هـو الغناء، وقيل هو كل ما سوى الله ،ولذلك روى مالك عن محمد بن المنكدر أنه قال: يقول الله جلّ ذكره يوم القيامة أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللغو ومزامير الشيطان، أدخلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي علي وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. بل إن علماؤنا حذرونا حتى من مجالسة أهل الهوى ، فقال الحسن البصري رحمه الله : لاتجالسوا أصحاب الهوى ولا تجادلوهم ولا تسمعوامنهم . لأن مجالسة هؤلاء ـــ كما قال إبراهيم النخعي ـــ تُذهِب بنور الإيمان من القلوب ، وتسلب محاسن الوجوه ، وتورث البغض في قلوب المؤمنين . كما قال أبوقلابة رحمه الله: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. بل إن ابن عجيبة رحمه الله قال بأن الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه، كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى المدينة. وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل من يشغله من الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عنالله.
اترك تعليقاً