الباب التاسع من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية

مقالات

الباب التاسع من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية “كرامة أهل الحي صون عهودهم ويستوي الرضوان في الفقد والوجد”. وهنا ينبهنا شيخنا إلى ضرورة أن يصون المريد عهوده وأنيكون راضيا مع مولاه في حال الفقد وفي حال الوجد وفي كل حالاته وبين أن كرامة المريد في صون عهده وميثاقه ،ولذلك وصف ربنا سبحانه وتعالى من ينقض عهده بالخسران فقال جل جلاله { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ }سورة البقرة آية رقم27 ومعناها الذين ينقضون عهد الله الذي عاهدوه يوم الميثاق على التوحيد والعبودية والإخلاص من بعد ميثاقه. قال قتادة: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: ” لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد له ” أي لا دين لمن خان عهده مع الله ولمن خان عهده مع رسول الله ومع شيخه والناس. ـــ وأمرنا الله بالوفاء بالعهود فقال تعالى{ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } ، وقال يحيى بن معاذ :لربك عليك عهود ظاهراوباطنًا، فعهد على الأسرار أن لا يشاهد سواه وعهد على الروح أن لا يفارق مقام القربة، وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف، وعهد على النفس فى آداء الفرائض، وعهد على الجوارح فى ملازمة الأدب وترك ركوب المخالفات. والله يقول: { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }. ــ والمريد الذي يصون ميثاقه مع ربه وعهده مع نبيه وشيخه إنما هو مريد صفا قلبه عن الأكدار والأغيار ، وأبصر قلبه العلوم والأسرار فوفى تلك العهود ، ولذلك وصفهم الله في سورة الرعد الآيتين 19،20 بقوله {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إنما يتذكر أولو الألباب . ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ . وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَل َ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويخافون سُوءَ الحِسَابِ }. وفي تفسيرها قال بن عجيبة رحمه الله : أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره، كمن هو أعمى القلب والبصيرة، فلم يرفع بذلك رأساً؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولو القلوب الصافية التي ذهب خبثها، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ، فأوفوا بعهودهم، وواصلوهم، وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات، وصبروا على دوام المجاهدات، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات، وأقاموا صلاة القلوب ـ وهي العكوف في حضرة الغيوب ـ وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الاحسان. ـــ كذلك الذي يصون عهده ويرضى بأمر ربه في كل حال ، هو ممن اتقى الله حق تقاته ، لذا قيل أن حق التقوى هي : صون المعهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا . وقيل هم الذين عاهدهم الله على أن يحبهم ويحبونه، فأوفوا بعهده وما أحبوا غيره. قال القشيري رحمه الله: ومِنْ نَقْضِ العهد أيضاً أن يحيد سِرُّك لحظةً عن شهوده. قال ابو يزيد البسطامى قدس سره فى حق تلميذه لما خالفه دعوا من سقط من عين الله فرؤى بعد ذلك مع المخنثين و سرق فقطعت يده هذا لمن نكث ،أين هو ممن وفى بيعته! مثل تلميذ الدارانى قيل له ألق نفسك فى التنور فألقى نفسه فيه فعاد عليه بردا وسلاما هذه نتيجة الوفاء. كذلك يرضى في كل حالاته في السراء والضراء في حال المنع والعطاء في حال الوجد والفقد ، ويقول حبر الأمة عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما-: أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله تعالى على كل حال. وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: “لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت أحب إلى من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان”. وقد وصف الله عبده الذي يوفي عهوده ويرضى بأمر الله ويصبر على آوامر ربه ونواهيه وبلائه في السراء والضراء بأنه من الصادقين ومن المتقين فقال في سورة البقرة الآية 177 {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. كما جعل ذلك من صفات المؤمنين الذين أفلحوا فقال جل جلاله{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وفيها ورد عن بعض العارفين: إن لله – عز وجل – إلى عبده سرّيْن يُسرهما إليه،يوجده ذلك بإلهام يلهمه ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: ” عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفا ، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك، ” وسرٌ عن خروج روحه، يقول له: “ عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فألقاك بالوفاء والجزاء؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ ” فهذا داخل في قوله عز وجل: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللَّهمَّ مارزقتني مما أحبُّ فاجعَلْهُ قُوَّة لي فيما تُحب وما زويت عني مما أحبُّ فاجعَلْهُ فَرَاغا لي فيما تُحِب). وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه, فيقول: إن أعطيتني قبلت, وإن منعتني رضيت, وإن تركتني عبدت, وإن دعوتني أجبت. لذلك فالرضا كما قال أبوسليمان الداراني هو من أخلاق المرسلين ، والمريد الراضي هو أغنى الناس لما ورد في بعض وصية سيدنا رسول الله: (وارضى بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) ، وهو كذلك من أسباب سعادته لما ورد أن رسول الله قال 🙁 من سعادة بن آدم رضاه بما قضى الله) .
Share This

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *