الباب الخامس من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية 

دروس

الباب الخامس من كتاب النسائم المدنية في شرح القصيدة الخضرية  يوضح هنا الشيخ ومن بعد محوك يا مريد بصحوة تلطف لجمع الزاد واهرع بالجد”.اعلم أخي أن أول طريق القوم باعث يقذفه الله في قلب عبده ليوقظه من غفلته ، فيقول له قم من غفلتك يا غافل ، فينظر العبد في أحوال نفسه وما عليها من جناية وغفلات ، ويقوى هذا الباعث في نفسه رويدا رويداً فيفيق من رقاده وغفلته ، ويتفكر في عجائب القدرة الإلهية وعجائب السموات والأرض وإبداع صانعها ، فيتوب ويقبل على نفسه ليربيها ، وهنا تبدأ حالة المحو ، لاسيما إن رزقه الله بشيخ عارف بالله ، فيأخذ بيده ليمحوا عن نفس ذلك المريد آفات نفسه الأمارة بالسوء التي تجلت على عرش قلبه ، ويخليه من أوصافه الذميمة ، ويزكي نفسه من رجس الشهوات ويطهرها من متابعة الهوى ، ويخلص روحه من غيم الغفلة ، فإذا ما تحقق له ذلك بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الصحو ، وهي من صحت السماء إذا زال عنها الغيم ، فيدخله شيخه فكرة العيان فيغيب عن نظرة الأكوان ويبقى المكون وحده ،فالصحوا إذن هو حاله بعد ذلك ، أي بعد تزكية نفسه وتطهير قلبه وروحه ليتحلى بالشمائل والأخلاق المحمدية ، ليكون كنبيه قرآناً يمشي على الأرض ، أي ينتقل لحال جمع الزاد ليوم الميعاد في ستر أو في حالة تلطف كما عبر عنها شيخنا . فالمحو إذن ما هو إلا تجريد الظاهر بترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله ، كذا تجريد الباطن بترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله ، أي تفريد القلب والقالب لله . ثم يهرع بعد صحوه إلى جمع زاده ليوم ميعاده ، وليتلطف ولا يشعرن به أحداً؛حتى لا يشغلوه عن أوراده وأذكاره ، كما حدث مع سيدتنا السيدة نفيسة رضي الله عنها عندما هرع إليها حشود من البشر يلتمسون عندها البركة وازدحمت بـها الدار ففكرت السيدة نفيسة فى مغادرة مصر حيث تعود إلى مدينة رسول الله صلى الله علية وسلم لتقضى بقية عمرها فى هدوء وعبادة ولما علم أهل مصر بذلك شق عليهم أن تفارقهم ، فالتمسوا منها العدول عن عزمها ورجوها البقاء بينهم ولكن أصرت على طلبها فلجأوا إلى والى مصر ” السري بن الحكم بن يوسف ” فانتقل اليها يستعطـفها ويطلب منها البقاء فقالت: ( إنى كنت قد عزمت المقام عندك ، غير أنى امرأة ضعيفة وقد تكاثر الناس حولى وأكثروا من زيارتى فشغلونى عن أورادى وجمع زادى لمعادى ، غير أن منزلى هذا يضيق لهذا الجمع الكثيف والعدد الكبير ولقد زاد حنينى إلى روضة جدى المصطفى صلى الله عليه وسلم ) ، فقال لها السرى : ( يا ابنة رسول الله إنى كفيل بإزالة ما تشكين منه وسأمهد لك السبيل وأهيئ لك ما فيه راحتك ورضاؤك ، أما ضيق المنزل فإن لى دارا واسعة بدرب السباع وإنى أشهد الله تعالى أنى وهبتها لك وأسألك أن تقبليهـا منى ولا تخجلينى بردها على ) ، فقالت بعد سكوت طويل : ( إنى قد قبلتها منك ، وقالت : يا سرى كيف أصنع بهذه الجموع الكثيرة والوفود الغفيرة ) ، فقال : ( تتفقين معهم على أن يكون للزوار فى كل جمعة يومان وباقى الأسبوع تتفرغين لعبادتك،أى : السبت والأربعاء للناس ) وكانت تقول : اللهم لا تجعل روادي يشغلوني عن أورادي وجمع زادي لمعادي. ولذلك يقول سيدى ابن عطاء الله فى الحكم العطائية: (ادْفِنْ وُجُودَك في أرْضِ الخُمُولِ، فَمَا نَبَتَ مما لم يُدْفَنْ لا يتم نتَاجُه). أي استر نفسك أيها المريد وادفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به وتستحليه، ويكون عندها أحلى من العسل، ويصير الظهور عندها أمر من الحنظل، فإذا دفنتها في أرض الخمول وامتدت عروقها فيه، فحينئذ تجني ثمرتها ويتم لك نتاجها، وهو سر الإخلاص والتحقق بمقام خواص الخواص. وأما إذا لم تدفنها في أرض الخمول وتركتها على ظهر الشهرة تجول، ماتت شجرتها أو سقطت ثمرتها. وقال بعض العارفين: كلما دفنت نفسك أرضاً أرضاً سما قلبك سماء سماء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبوا عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره في قسمه”. وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة. قلت: لا بد لي، قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون. قال: يا هذا تنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهالكين وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع غير الله .هيهات،هذا لايكون أبدا ،ثم غاب عني.  
Share This

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *